المصلحة الوطنية العربية والإسلامية- غزة، السيادة، والنظام الدولي

تتّسم مواقف الدول حيال العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة بتباين بالغ الوضوح والاتساع، حيث تسوّغ كل جهة موقفها بناءً على منظومة قيمية أو دوافع مصلحية. ويُعتبر التصوّر الذي تتبنّاه الدولة بشأن ماهية مصالحها الوطنية حجر الزاوية في تحديد سياستها الخارجية إزاء القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا.
ممّا يستدعي الغوص في أعماق هذا المفهوم، واستكشاف السُبل الكفيلة بتحديد مضمونه، وفحص "المصلحة الوطنية" للدول العربية والإسلامية في سياق تعاملها مع القضية الفلسطينية بشكل عام، ومع الحرب الدائرة رحاها في غزة على وجه الخصوص.
ما المقصود بـ "المصلحة الوطنية"؟
يختلف تفسير مفهوم المصلحة الوطنية تبعًا للمرجعية الفكرية والفلسفية للشخص أو الجهة التي تقوم بتحديده.
وعند ربط مصطلح الوطن بالدولة الحديثة، يجدر التنويه إلى ارتباط آليات عملها بالفلسفات التي واكبت نشأتها زمانًا ومكانًا. في المقابل، تتّسم وظيفة السلطة والحكم في وعي المسلمين بطبيعة مزدوجة: دينية ودنيوية في آن معًا. وتساهم هذه الازدواجية في نشوء فجوة بين تصورات الشعوب العربية والإسلامية تجاه السياسات الخارجية والداخلية لدولهم، وبين الخيارات التي تتبناها النخب الحاكمة، والتي غالبًا ما تستند إلى سياسة واقعية ترتكز على القوة والمصلحة، وتمنح القيم والأخلاق مكانة ثانوية وهامشية.
وللغوص في جذور مصطلح "المصلحة الوطنية"، يتعين العودة إلى الحقبة الزمنية التي شهدت بزوغ الدولة الحديثة في منتصف القرن السابع عشر، حين بدأ التساؤل يتبلور حول مسوغات وجودها، والمنطق الذي يحكم عملها.
ويُعدّ المفكر الإيطالي جيوفاني بوتيرو من أوائل من خاضوا في هذا المجال، وذلك في كتابه "عقل الدولة" Della ragion di Stato، حيث عرّف الدولة بأنها "سلطة مستقرة على الشعوب"، وأن مصلحتها ومنطق عملها يرتكزان على معرفة الوسائل المثلى لتأسيس هذه السلطة، والحفاظ عليها، وتوسيع نطاقها وتعزيزها.
ومن الممارسات الشائعة في الدول الدكتاتورية أن تحتكر السلطة غير المنتخبة، والتي لا تمثل شعبها، تعريفَ المصلحة الوطنية، ممّا يجعل مصلحة فئة محدودة معيارًا حاكمًا في تحديد مصلحة الدولة. وتنتج عن ذلك سياسات تخدم نفوذ تلك النخبة الضيقة ومصالحها.
وعلى الجانب الآخر، وبدافع من البُعد الديني لدى المسلمين، وانطلاقًا من وعيهم التاريخي والحضاري، فإنهم يتوقعون من دولهم تبني سياسة خارجية تراعي أيضًا الالتزامات الدينية، مثل وحدة المسلمين، ووجوب نصرة قضاياهم العادلة والوقوف بجانبهم.
غياب التأثير
لقد تمكنت دولة الاحتلال من اقتراف فظائع ومجازر غير مسبوقة خلال الحرب الشعواء على قطاع غزة، في ظل غياب أي تأثير رادع من جانب الدول العربية والإسلامية بشكل عام. وفي المقابل، أثارت الأنظمة والنخب المرتبطة بها جدالات واسعة لتبرير هذه المواقف المتخاذلة، من خلال الترويج لأفكار مثل أولوية المصالح الوطنية الضيقة على ما سواها، وتقديم مفهوم انعزالي للوطنية يجعلها نقيضًا للانتماء العربي والإسلامي، وتضخيم شأن "المصلحة الوطنية" مع افتراض انفصالها التام أو قلة تأثرها بالمصالح القومية المشتركة. وهو أمر منافٍ للحقيقة، سواء من الناحية المصلحية السياسية البحتة، أو من المنظور الديني والقومي الأصيل.
إذ لا يمكن فصل شرعية أي نظام عن مدى استجابته لتطلعات شعبه. والشعوب العربية والإسلامية لديها توقعات مشروعة بأن تقوم حكوماتها بنصرة المستضعفين في غزة، والامتناع عن أي تعاون من شأنه دعم العدوان الإسرائيلي الغاشم عليهم.
كما أن السماح للاحتلال بارتكاب هذا القدر الهائل من الجرائم في غزة ينذر بفتح الباب أمام وقوع جرائم مماثلة في الضفة الغربية ولبنان وغيرها من دول المنطقة، مما سيؤدي حتمًا إلى تقويض أمن واستقرار المنطقة بأسرها، وتهديد اقتصادها وتماسكها الاجتماعي.
الحفاظ على المكانة السياسية لدول المنطقة
إن المكانة الدولية لدول المنطقة ستتدهور حتمًا في حال تمكنت دولة الاحتلال من استكمال جرائمها النكراء وفرض إرادتها في غزة، ولاحقًا في الضفة الغربية وجنوب لبنان، ممّا سيؤدي إلى تضاؤل النفوذ الخارجي للدول العربية والإسلامية، وفقدان القدرة على ردع دولة الاحتلال، على الرغم من انتهاكها الصارخ لمصالح الدول المجاورة والاتفاقيات الموقعة معها، كما هو الحال في السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح، وتوغّل دباباتها وصولًا إلى الحدود مع مصر في خرق سافر للاتفاقيات المبرمة معها.
وفي السياق ذاته، تجلّى عجز تركيا عن التأثير في مسار الأحداث في فلسطين، على الرغم من تبنيها خطابًا يجعل من القضية الفلسطينية وحماية القدس منطلقًا لتعزيز دورها الإقليمي. وفي المقابل، برز دور منافستها الإقليمية، إيران، بشكل لافت، خاصة بعد إطلاقها مئات الصواريخ والطائرات المسيرة على دولة الاحتلال، ممّا أثار تساؤلات شعبية وإقليمية حول غياب التأثير التركي الفعلي، وهو ما انعكس سلبًا على نتائج حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات المحلية، وأعقب ذلك تصعيد رسمي تمثل في تقييد الصادرات التركية إلى دولة الاحتلال، ثم منعها بشكل كامل، بالإضافة إلى الاستقبال العلني لقادة حركة حماس، وتصعيد مستوى الخطاب الرسمي الرافض للانتهاكات الإسرائيلية المستمرة.
الحفاظ على قواعد النظام الدولي
يجدر التنويه في هذا الصدد إلى المصلحة العالمية في الحفاظ على "النظام الدولي القائم على القواعد"، أو ما تبقى منها، فهي على الرغم من حاجتها الماسة إلى الإصلاح والتطوير، إلا أن فقدانها وتزايد الفوضى والاضطرابات في النظام الدولي سيضرّان بالأمن والتنمية و"الاعتمادية الدولية" على نطاق واسع.
وكان هذا الأمر من الدوافع التي حَدت بإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى ممارسة الضغوط على دولة الاحتلال، بهدف تقليل حجم الخسائر في صفوف المدنيين الأبرياء في غزة، والسماح بدخول المساعدات والاحتياجات الإنسانية الضرورية إليها. فمبرر "التدخل الدولي الإنساني" أو "المسؤولية عن الحماية" كان بمثابة ذريعة لحملات عسكرية أميركية وغربية عديدة، كما حدث في كوسوفو وليبيا والعراق، وأساسًا للضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية المفروضة على الصين وروسيا. وفي المقابل، فإن استمرار دولة الاحتلال في ارتكاب جرائمها المروعة في غزة يقوض مصداقية هذه الأداة الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية.
حماية السيادة الوطنية
يثير العجز العربي والإسلامي الملحوظ تجاه العدوان والاحتلال الإسرائيلي تساؤلات مشروعة لدى الشعوب حول مدى امتلاك هذه الدول والحكومات لقرار مستقل عن الإرادة الأميركية والغربية. فمن الصعب تفسير التفريط بهذه المصالح الحيوية، وتجاوز الاعتبارات الدينية والقومية، على أنه ناتج عن قرار وطني سيادي نابع من الذات.
إن العجز العربي والإسلامي عن اتخاذ مواقف حازمة تحقق هذه المصالح الحيوية، وتدفع هذه التحديات الجسيمة، يعد مؤشرًا واضحًا على مستوى تراجع سيادة هذه الدول، وارتهان قراراتها السياسية والاقتصادية للتحالف غير المتكافئ مع الولايات المتحدة، التي ترعى دولة الاحتلال وتشاركها في حربها الظالمة وإدامة احتلالها لفلسطين و هيمنتها على المنطقة، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع آمال وتطلعات شعوب الدول العربية والإسلامية، ويزيد من فرص نشوب موجة ثانية من "الربيع العربي" قد تكون أشد وطأة و أكثر تأثيرًا.
